افتتاحيات جريدة البعث

افتتاحية العدد 111 في 15 آذار 2025

لتقبر المؤامرة على سورية بأسرع وقت

 

كان متوقعاً أن سورية بعد إسقاط نظام الأسد مقدمة على أحداث خطيرة جداً تنطوي على احتمالات تنفيذ مخططات مقرة ومعلنة من قبل الغرب وإسرائيل وإيران تزجها في أزمات دموية طائفية وعرقية تفضي إلى تقسيمها إلى دويلات ، واستناداً إلى هذه البديهية نصحنا منذ قيام الحكم الجديد في سوريا باتباع سياسة تقوم على غلق كل الثغرات التي يمكن أن ينفذ الأعداء الثلاثة من خلالها المخطط التقسيمي ، وما جرى في الساحل السوري ومناطق أخرى منها السويداء .وكما متوقع أيضاً فإن الطرف الأكثر استعداداً لتنفيذ هذا المخطط هي إيران لأنه إذا بقي النظام الجديد ستكون أكثر المتضررين من التغيير خصوصاً وأنه اقترن بتغيير آخر في لبنان قبله أدى إلى تهديم أغلب أحجار احتلالها للبنان ، والأهم بالنسبة لإيران هو أن غزوها للعراق يقترب من النهاية أيضاً ، كل ذلك وضعها أمام خيارين لا ثالث لهما : فأما أن تتقبل أكبر خسارة استراتيجية في تاريخ نظام الملالي تفقد فيها كل ما بنته من نفوذ واحتلالات وتدفع النظام للسقوط الحتمي ، أو أن تقاوم ما يجري رغم ضعف الأمل في نجاحها ، ولكنها رفسة الثور وهو يحتضر . اما إسرائيل فإنها تنفذ مخططها الخاص والذي تجاوز في حدوده المخطط الأمريكي والأوروبي ، فنتنياهو مستعجل لتنفيذ خطة إسرائيل الكبرى مستغلاً الأحداث الأخيرة التي وفرت فرصة حقيقية للتوسع الجغرافي في سورية والعراق والأردن وإنهاء الوجود الفلسطيني في الضفة وغزة ، وهو ما دفعه لتدمير الجيش السوري مع سقوط النظام لكي يضع النظام البديل أمام حالة عجز تام عن منع التوسع الإسرائيلي في الأراضي السورية ، وهكذا نرى الآن أن كلاً من إيران وإسرائيل تجدان إن الوضع السوري يجب أن يتغير تبعاً لمطامعهما الاستعمارية .وبسبب قلة الخبرة في إدارة الدولة ، والتربية الفئوية لفصائل مشاركة في الحكم حالياً أو تدعمه حصلت ردود فعل تجاوزت الفعل المطلوب لردع المؤامرة الإيرانية ، وكان ذلك متوقعاً من قبل إسرائيل والغرب وإيران من أجل استغلاله لشيطنة النظام الجديد وتعبئة الرأي العام ضده تمهيداً لإسقاطه . وحزبنا وهو يتابع بقلق ما يجري في سوريا يشير إلى أن أي تراجع في سورية لصالح نظام أسد أو إيران او اسرائيل سيكون ضربة موجعة ليس للمصالح الوطنية السورية فقط بل لمصالح الأمة العربية كلها ، فقد كان إسقاط نظام بشار أسد مكسباً استراتيجياً جوهرياً للأمة العربية ولكل الأحرار ، وعزز الروح المعنوية لدى السوريين عموماً وجعل صفوفهم تتحد من أجل تطهير سوريا من أثام حكم أسد وضبط بعض الفئات أمنياً وسياسياً وأن يكون للنظام الجديد صوت واحد إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً ، وأن تكون أداته العسكرية مركزية ومهنية محترفة ، ويوجد في سورية مئات الضباط الوطنيين المحترفين القادرين على بناء جيش سوري وطني حقيقي ومن الضروري الاعتماد عليهم . ونحن إذ نذكّر بكل تلك الملاحظات المهمة نجدد دعمنا للنظام الجديد بغض النظر عن أي خلافات سياسية أو فكرية مع أطراف فيه أو معه ، ونؤكد بأن طريق إيصال سورية إلى مرحلة التعافي والنهوض وإعادة بناء الدولة والمجتمع يمر عبر أقامة جبهة وطنية عريضة تضم كل الوطنيين الذين ناضلوا ضد نظام أسد . إن ثنائية التسامح والحزم يجب أن تكون هي الإسلوب المتبع الآن تجاه التحديات في سورية ، والقضاء على المؤامرة الإيرانية - الإسرائيلية يجب أن يكون بأسرع وقت ممكن لمنع تعاقب خطوات التآمر على سورية وصولاً للتقسيم ، أو على الأقل فرض نظام فيدرالي في وطن بسيط واحد لا يحتاج حتى للحكم الذاتي ! .ستعود سورية قلباً نابضاً للعروبة يقذف بدم التجدد في كل الجسد العربي ليتعافى وينهض عملاقاُ لا يُغلب ولا يُحلب ، ولتكن أيام الثورة السورية زمن كشف كل الأوراق المخفية بالصبر وبُعد النظر وترك الأمور تنضج بعيداً عن عاطفة الحسم الآني .

 

هيئة تحرير البعث


افتتاحية العدد ١١٠ الصادر في ١ آذار ٢٠٢٥

غدر أمريكا التي تتراجع

لم تتحف البشرية بالفضائح والخروج على التقاليد والأعراف الدبلوماسية دولة مثلما فعلت أمريكا ، فهي التي تصنع القواعد والقوانين والتحالفات والشعارات وهي التي تلغيها ! ، وما حصل مؤخراً مع الرئيس الأوكراني " زيلينسكي " مثال واحد فقط على تلك العقلية التي لا تراعي شيئاً سوى أنانيتها المفرطة ونوازعها العدوانية ، فلأول مرة - على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن - يشاهد العالم من شاشات التلفزيون خديعة مدبرة من قبل الإدارة الأمريكية لإهانة زيلينسكي بطريقة من الصعب وصفها بكلمات دبلوماسية ، فالرئيس الأمريكي ونائبه لم يتركا كلمة جارحة إلا واستخدماها ضده ، بل إن االخديعة تضمنت إعداد صحفيين ليمارسوا إهانة زيلينسكي أيضاً حينما سأله أحد الصحفيين : لماذا لا ترتدي بدلة ؟ ، هل توجد لديك بدلة ؟  ، وكان ذلك ذروة تعمد إهانة زيلينسكي والذي بدى مذهولاً يدير رأسه بين الرئيس ونائبه والصحفيين وهو غير مصدق ولا فهم بعد ما الذي يجري له ! ، فكل ما كان في ذهنه هو أن أمريكا بلد الديمقراطية وحقوق الإنسان ، فإذا كانت وحسب فرضيته تدافع عن الإنسان العادي ، أليس من الطبيعي أن تحترم رئيس دولة أتى ضيفاً إليها ؟ 

إن ما شاهدناه هو إنذار للجميع يؤكد بأن أمريكا لا تتردد عن فعل أي عمل مهما كان غير منطقي ولا أخلاقي ! ، نحن هنا لا ندافع عن زيلينسكي فهو يستحق ما حصل له ، بل نشير إلى أن من قاما بذلك لا يحق لهما أن يقوما بهذا بصفتهما رئيس دولة ونائب رئيس دولة ، وتسجيل حقيقة يجب معرفتها من قبل كل من يتعامل مع أمريكا ، وهي أن زيلينسكي الذي وضع كل بيضه في سلة أمريكا والاتحاد الأوروبي لم يخطر بباله أن أمريكا التي قدمت له دعماً مالياً ضخماً ستكون أول من ينقلب عليه ! ، فقد كان يرى إدارة " جو بايدن " تقدم له ليس المال فقط بل قامت بتزويده بكل الأسلحة الاستراتيجية الأمريكية التي يستطيع بها ضرب العمق الروسي ، وغابت عن باله حقائق الطبيعة الأمريكية لأنه جديد على السياسة واختصاصه التمثيل والرقص لإضحاك الناس ، فكان عليه أن يستمع ويرى ما لم يخطر في باله حتى في الكوابيس ! ، والدرس المهم الواجب الانتباه إليه هو أن ما حصل لزيلينسكي يمكن أن يحصل لأي رئيس أو ملك أو أمير يزور أمريكا ، وعلى هؤلاء الاستعداد لهذه المفاجئة ، وهذا تطور خطير غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية والدولية الحديثة .

ولا يمكننا أن نفسر هذا السلوك الأمريكي إلا على أنه ثمرة التدهور الهائل في مكانة أمريكا التي كانت عظيمة ، ويريد ترامب إعادة عظمتها ، فالرئيس الأمريكي حينما فعل ذلك هو ونائبه انطلقا من شعور أمريكي عميق بأن العالم يفلت من بين أصابع أمريكا كما تتسرب الرمال ، ولذلك أصبحت ردود فعل وأفعال أمريكا انفعالية وعدوانية بشكل مباشر وصريح وسقطت كل المواضعات والأعراف الدبلوماسية والأخلاقية .

والخديعة وقعت فعلاً ولم يكن كلام " ترامب " ونائبه عفوياً ، بل أُعد مسبقاً ورُتبت المسرحية قبل وصول زيلينسكي ، وهكذا نرى إن ما تنفرد به الولايات المتحدة الأمريكية من بين كل دول العالم هو أن انتخاب رئيس جديد يعفي أمريكا من التقيد بسياسات الرئيس السابق اذا كان ذلك يخدم مصالحها الأنانية ، وهذا مناف للتقاليد الدولية ، فالرئيس في دولة ديمقراطية مثل أمريكا تتفاخر بديمقراطيتها لم يتخذ قراراته إلا بناء على رأي الكونغرس وموافقته أي الرأي العام حسب ما يقولون ، لذلك فليس من الطبيعي أن رئيساً جديداً يأتي ليلغي قرارات وخطط رئيس سابق لم يضع هو الخطط بل الخبراء وأقره الكونغرس ، فهي بالتالي نتاج إرادة أمريكية عامة وليست إرادة رئيس فقط كي يتراجع الرئيس الجديد عنها ، الأمر الذي يضعنا أمام حقيقة مقلقة جداً وهي أنه لا يمكن الثقة بالتزام أمريكا باتفاقياتها وهي مستعدة للتنصل من أي التزام رسمي .

وربما كان من أوضح الأمور في معركة ترامب ونائبه مع زيلنيسكي هو أنها قدمت مباشرة عبر الإعلام وبحضور إعلاميين ساهموا في استخدام أدوات المطبخ في الضرب ، ولم تجري خلف الكواليس السرية .

والأهم أنها معركة تدور حول استيلاء أمريكا على معادن أوكرانيا مقابل المال الذي دفعته لها ومطالبة زيلينسكي بضمانات تتعلق بالحرب بين روسيا وأوكرانيا ورفض ترامب تقديم هذه الضمانات ، رغم أنه حق طبيعي ، وهكذا يظهر الجذر التجاري لهذه الخديعة ، فترامب هو أولاً وأخيراً تاجر وعندما صار رئيساً لم تستوعب عقلية التاجر الانتقال إلى دور الرئيس ، بل نقل عقلية التاجر إلى الرئاسة ، ولهذا رأيناه يتعارك مع زيلينسكي حول الصفقة التي يريدها لنهب ثروات أوكرانيا .

وما كان على زيلينسكي علمه ، وذلك خارج وعيه كممثل ، هو أن المراهنة على دول عظمى بالطريقة التي فعلها وزج بموجبها أوكرانيا في محرقة كبيرة بتعمده خلق أزمة ساخنة مع روسيا بتشجيع أمريكي صريح ورسمي إنما هو عمل تقليدي في الغرب الرأسمالي ، فقد شجع ودعم من قبل أمريكا ، ولكن حينما أصبحت مصلحتها تكمن في التقارب مع روسيا لأجل عزل الصين ، وبعد أن فشلت الحرب في إلحاق الهزيمة بروسيا ونجحت في قلب الطاولة على الغرب ، قدم ترامب ليس الرئيس الأوكراني كبش فداء فقط ، بل قدم الاتحاد الأوروبي برمته وأسقط ما كان يسمى الغرب ! ، وهكذا اضطر الاتحاد الأوروبي للبحث عن هيكلة جديدة للدفاع عنه بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية ! .

إنه تطور خطير غير مسبوق في علاقات أوربا وأمريكا ، فليكن ما جرى درساً لكل من يضع بيضه في سلة أمريكا متجاهلاً أنها ستأخذ البيض ولن تعطيه إلا الصفعات كما جرى لزيلينسكي .

هيئة تحرير البعث